وزير الأوقاف: الصدام بين الدعوة والسلطة في بعض الأحيان من باب اصطناع البطولات الوهمية ، أو ناتجًا عن سوء تقدير للمصالح الشرعية أو الوطنية
يقول وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة ينظر بعض الناس إلى العلاقة بين الدعوة والسلطة على أنها في الغالب الأعم لا تخرج عن أحد نمطين:
الأول: يتمثل في تبعية الدعوة للسلطة ، والآخر يتمثل في صدام الدعوة مع السلطة ، وبالفعل فإن التاريخ في أكثر البلاد العربية والإسلامية في مراحل كثيرة منه قد دار في فلك هذين النمطين ، مع ما لكل منهما من مخاطر وتداعيات.
أما النمط الأول: نمط تبعية الدعوة للسلطة تبعية عمياء وصلت في بعض المراحل وفي بعض البلدان إلى مزايدة بعض المحسوبين على الدعوة وعلى العلماء مزايدة فاقت ما كانت تطمح إليه السلطات القائمة آنذاك ، وقد ولّد ذلك احتقانا شديدًا لدى كثير من الناس وبخاصة الشباب في هذه المراحل ، لأن السلطة عندما توظف الدعوة وتوجهها توجيها سياسيا خالصا للسير في ركابها مع ضعف الدعوة عن أي لون من المراجعة أو الحوار الراقي أو النصيحة الشرعية الواجبة التي يتطلبها الواجب الشرعي وعلاقة الاحترام المتبادل بين الدعوة والسلطة لما فيه مصلحة الوطن .. فإن ذلك يؤدي إلى نفور الناس وبخاصة الشباب من تصرفات العلماء المحسوبين على السلطة ، ثم ينسحب هذا النفور على كل علماء المؤسسات الدينية الرسمية ، فيبحث هؤلاء عن البديل الذي لا يرونه تابعا للسلطة حتى لو كان من غير أهل العلم أو الفتوى أو التخصص الشرعي، وينطبع في أذهانهم أن كل من يرد على العلماء الرسميين أو المحسوبين على السلطة هو العالم الرباني ، وارتبط التدين في أذهان كثير من الشباب بالتشدد ، فكلما تشدد المقتحمون والدخلاء على عالم الدعوة في فتواهم كلما التف الشباب حولهم ، مع أن كل ذلك مخالف للمنهج السمح لديننا الحنيف ، فالفقه عند أهل العلم به، هو التيسير بدليل، ولم يقل أحد من أهل العلم والفقه لا في القديم ولا في الحديث إن الفقه هو التشدد ، لأن الله (عز وجل) يقول: ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” (البقرة:185) ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ” ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه ” ، وما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ولا قطيعة رحم، فتبعية الدعوة للسلطة تنفر الناس من العلماء المقربين من السلطة ، ثم ينسحب هذا النفور إلى السلطة نفسها.
وأما النمط الثاني: فهو نمط الصدام بين الدعوة والسلطة، وقد يكون ذلك في بعض الأحيان من باب اصطناع البطولات الوهمية ، أو ناتجًا عن سوء تقدير للمصالح الشرعية أو الوطنية ، أو سوء تقدير من السلطة الحاكمة للمؤسسة الدينية ولدورها الهام أو تهميشها لها ، ظنا خاطئا بأن تجفيف منابع الإرهاب تعني تجفيف منابع التدين.
وقد يسهم عدم التواصل الفعال والدائم بين الدعوة والسلطة في إحداث لون من الجفاء ، يتبعه نقد خفي ، فظاهر ، فجلي ، فحاد ، فصدام لا يستفيد منه سوى أعداء الدين والوطن.
النمط الأمثل:
أما النمط الأمثل الذي نسعى إليه ونعمل على تحقيقه لمصلحة الوطن لا لشيء آخر ، فهو علاقة التواصل والتفاهم والتعاون والاحترام المتبادل بين الدعوة والسلطة ، وهو ما أرى أنه يتحقق في أسمى معانيه وأعلاها رقيا في علاقة الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء بجميع مؤسسات الدولة ، وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية ، ومجلس الوزراء ، والمؤسسة العسكرية ، والمؤسسة الشرطية ، وسائر الوزارات وأجهزة الدولة ، ففي الوقت الذي تكنّ هذه المؤسسات كل التقدير للأزهر وعلمائه وشيخه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أ.د/ أحمد الطيب ، وكذلك للكنيسة وقياداتها الروحية الوطنية وفي مقدمتهم البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ، فإن هذه المؤسسات تعي دورها الوطني ، وتكنّ للسلطة القائمة كل تقدير واحترام ، وتقدر لها جهودها في خدمة الوطن ، والحفاظ على هوية الدولة المصرية وعلى تماسكها وصمودها في وجه التحديات لهذه المرحلة الحاسمة الفارقة شديدة الحساسية في تاريخ مصر.
الدعوة للدعوة والدعوة للسلطة:
أما الجانب الآخر الذي ينبغي أن يكون محل اعتبار هو هل الدعوة للدعوة ذاتها ، قصد الإصلاح الشرعي والأخلاقي والاجتماعي والتربوي ، أو أنها وسيلة للوصول إلى السلطة لدى بعض الجماعات العاملة في حقلها أو الأحزاب التي تتزيا بزيها وتتستر بغطائها كمجرد وسيلة لكسب العقول والأصوات الانتخابية ؟
والذي أؤكد عليه في هذا المجال أن الدعوة القادرة على الإصلاح الحقيقي هي الدعوة الخالصة المجردة التي لا تعمل لأجل الوصول إلى السلطة ، ولا توظف الدعوة توظيفا نفعيا حزبيا ، أو مذهبيا ، أو فئويا ، أو طائفيا ، أو لأي مصالح شخصية ، حيث يعمل الدعاة للإصلاح لوجه الله تعالى وللمصالح العليا للوطن دون أي تطلعات أخرى ، فهي لا تسعى إلى الحكم ، وإنما تسعى إلى إصلاح حال الحاكم والمحكوم من خلال النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة لأئمة المسلمين ولعامتهم ولجميع أبناء الوطن الشرفاء ، تدرك أن ما عليها إلا الأخذ بالأسباب أما النتائج فأمرها إلى الله وحده ، حيث يقول الحق سبحانه: ” إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ” (القصص:56) ، وقوله تعالى لنبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ” (الشورى:48)
أما من يستخدمون مجال الدعوة وسيلة للوصول إلى السلطة فهؤلاء يجنون على الدعوة أكثر من جنايتهم على السلطة ، حيث ينحرفون بالدعوة عن مسارها الصحيح ، وقد يضطرون إلى توجيه بعض النصوص لما يخدم أفكارهم السياسية ، أو إلى تبدل مواقفهم الشرعية والدعوية تبعا لتغير مواقفهم السياسية ، مما يجعل تصرفاتهم عبئا ثقيلا على الدعوة والدعاة ، ينفّر تنفيرًا كبيرًا من الدين والمتدينين ، ويجعل التصرفات الخاطئة لهؤلاء محمولة ومحسوبة على الدين نفسه في نظر العامة على أقل تقدير.
ومن هنا أؤكد أننا لابد أن نكون دعاة بسلوكنا وأخلاقنا ، وأن نكون قدوة بأفعالنا وتصرفاتنا ، لأن الناس ضاقت ذرعا من الانفصام الذي رأوه بين الأقوال والأفعال لدى بعض من ينتسبون إلى مجال الدعوة والدعاة وهي منهم براء.